عندما قدمها لي الصديق العزيز "أرنست هايز" قلت لها: أذكر أني رأيتك من مدة طويلة. وأذكر أني تحدثت عنك مع أصدقائي. ولكن هذه هي المرة الأولى التي أتحدث فيها إليك. كنت عندما رأيتك في المرة الأولى شاباً خجولاً أخشى أن أتحدث إلى الشخصيات الارستقراطية وقد قالوا لي وقتها إنك ابنه شريف فنلندي اسمه البارون كارل جوستاف. لكني وقد اعتدت أن أتحدث إلى شخصيات من مختلف الطبقات رأيت أن أتحدث إليك خصوصاً عندما أخبروني أنك رقيقة الشمائل. عالية النفس. جمة التواضع ... وتضرج وجه ماتلدة ريد- ويدعوها البعض ماتلدة فريد- بالاحمرار الشديد وقالت: أرجو أن تنسى ما يسميه الناس الدم الأزرق. وتذكر أننا جميعاً من دم واحد. إننا جميعاً أولاد الله. وبما أني أعرف أنك تنوي أن تقدمني لأصدقائك فأنني سأعفيك من الأسئلة الكثيرة التي تسألها في العادة لكي تصل إلى ما تصبو إليه من تسليط النور على الجزء البارز في حياتي. بالطبع ستقول إنك ترغب أن تعرف متى ولدت وأين ولدت ومركزي الاجتماعي، وأخبار طفولتي وشبابي مما أعتقد أنا أن لا لزوم له ولكنك تصر على معرفته بحجة علاقته بالنقطة الهامة التي تبحث عنها. فاعلم أني ولدت سنة 1864 من عائلة نبيلة في فنلندا وأبى كما ذكرت البارون جوستاف. وقد تربيت تربية أبناء الطبقة العالية. كنت أتعلم في البيت، إذ كان المدرسون يأتون إلىّ. وقد نشأت فتاة مرهفة الحس أتأثر بشدة من كل منظر مؤلم. وقد حدث في أحد الأيام أني كنت أنتظر دخول استاذ الحساب وقد تأخر قليلاً فكنت أطل من النافذة. وكان أمام البيت دكان الحداد وأبصرت سجيناً يقوده حارسه إلى الحداد ليثبت في قدميه ويديه سلاسل ثقيلة. وبالطبع كان لابد من وضع قدميه في النار للتمكن من برشمة الحديد!!
وقد ترك المنظر أعمق الأثر في نفسي. فاهتز جسدي اهتزازة عنيفة واضطربت أيما اضطراب. ولم أستطع أن أترك النافذة. ودخل المدرس وجذبني إلى الداخل قائلاً: ليس هذا المنظر مما ينظره الأطفال. فقلت له إنه إذا كان السجين يستطيع أن يتحمله فلماذا لا أستطيع أنا أن أنظره!!
من ذلك الوقت أصبحت أنظر إلى السجون برعب. ولم يمكني التخلص من رؤية المساجين فقد كانوا يعملون في الطرقات وفي البيوت. فكنت أراهم وهو يجرّون سلاسلهم الثقيلة. وكنت أنظر إليهم بعطف وابتسم في وجوههم. وفي بعض الأوقات كنت أقدم لهم بعض البرتقال والكعك!!
وصمتت ماتلدة قليلاً ورأيت عينيها تسبحان إلى بعيد. ولكنها انتبهت إلىّ وقالت كما لو كانت تجيب سؤلاً لم أساله: "كلا، لم يكن هذا المنظر هو الدعوة الحاسمة لي لأكرس حياتي للمسجونين. حدث ذلك بعد مدة. لكن لماذا لا تتركني أذكر لك الحوادث مسلسلة. قلت لك إن منظر الحديد في يدي ورجلي السجين ومنظر المساجين بسلاسلهم وهم يعملون... قلت لك إن هذا المنظر ترك طابعه فيً. ولكنه كان طابع طابع... لا أعلم ماذا أدعوه. هل أدعوه طابع الألم الشديد من رؤية المساجين، أو أدعوه طابع النفور من القسوة الشديدة عليهم، أو طابع الرعب من حالتهم التعسة، أو طابع الخجل من أنانيتي واهتمامي بنفسي وعدم الافتكار فيهم. صدقني أني أعلم. ولكنه ترك طابعه على ذهني وعلى قلبي!!
وفي إحدى الليالي قال لي أبي إننا سنذهب غداً إلى "ساندفيكن" لنسمع شدو العصافير. كان فصل الربيع و"ساندفيكن" كانت بقعة رائعة الجمال. ولكن الوصول إليها من بلدتنا "فاسا"كان يتطلب المرور بالسجن العمومي. فقلت له: كلا. يا أبي إني لا أستطيع الذهاب لا أستطيع أن أمر بمبنى السجن حيث يقيم أولئك التعساء. وأذهب أنا لأمتع نفسي بالربيع وأسمع شدو العصافير. وقال أبي: ولكن هناك أسوار عالية تحيط بالمكان فلن تبصري شيئاً. وقلت: هذا لا يهم يا أبي: إنهم هناك على كل حال. وحتى يرضيني أبي ذهبنا في طريق بعيدة عن السجن!!
وذهبت بعد ذلك إلى القسم الداخلي في المدرسة وأبتعدت عن مناطق السجن وكدت أنسى موضوع المسجونين. ولكني عندما عدت إلى البيت رأيت أن أبي جدد أثاث غرفة نومي واكتشفت أن كل الأثاث الجميل والأنيق صنع في السجن بيد المسجونين. فأعاد هذا إلى ذهني الصورة الشقية لأولئك التعساء الذين انزلقوا في ساعات ضعف إلى هذا المصير السيء!!
قلت: "دعني إذن أذكر العوامل التي ساقتك إلى تكريس حياتك لخدمتك المجيدة. العامل الأول رؤية الحداد يثبت السلاسل الحديدية في يدي وقدمي السجين المسكين. العامل الثاني رؤية المساجين يعملون في طرقات المدينة وهم يجرون سلاسلهم الثقيلة. العامل الثالث: تأثيث غرفة نومك بأثاث صنع في السجن. هل ثمت شيء آخر؟!
وابتسمت ماتلدة وقالت: "أخشى أنك تتعجل الأمور. كلا لم تكن هذه العوامل لتكفي أن أخطو هذه الخطوة الجريئة. إن خدمتي لم تكن استجابة لدعوة إصلاح اجتماعي أدبي. إن الإنجيل الاجتماعي شيء طيب ولكنه إنجيل عاجز. إنه لا يستطيع أن يخلص أرجو أنك تهدأ وتنتظر!!
لقد كانت الدعوة الحاسمة الأولى دعوة روحية. قامت "موجة" نهضات دينية في الأقاليم اكتسحت كل بلاد "فنلندا" ووصل بعضها إلى بلدتنا "فاسا" وأقيمت اجتماعات للكرازة فيها. وذهبت إلى تلك الاجتماعات وسمعت عظة عن الآية: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد". يا طالما سمعت هذه الآية من قبل. ولكنها في هذه المرة بدت لي جديدة جداً. لأول مرة فهمت تماماً ما تعنيه هذه الآية. فرأيت ما عملت محبة الله إذ جعلته يبذل... يبذل ابنه لأجل العالم. ليكشف للناس سبيل المحبة. وفي تلك اللحظة وفي ذلك المكان تعهدت أن أوجه حياتي في سبيل المحبة والخدمة للجميع. نعم فإن الذي يحب لابد أن يعمل... لابد أن يبذل!!
وقد حدث بعد ذلك حادث عادي. عادي جداً ولكنه كان كدقة المطرقة على ما انطبع في ذهني من تأثير عظة الواعظ عن محبة الله العاملة. ذلك أن قفل باب البيت كان في حاجة إلى إصلاح. وجاءوا بأحد المساجين ليصلحه. وقد أحسست بحالة من الأشمئزاز وأنا أبصر رجلاً يعمل وهو مغلول بالسلاسل. ولكن أبي طلب مني أن أغالب أشمئزازي بأن أتحدث إليه بكلمات شفوقة. وتحدثت إليه عن اكتشافي الجديد عن محبة الله للجميع. واكتشفت أن الرجل ليس شريراً جداً كما كنت أعتقد عن المساجين. كنت أعتقد أن لا شيء صالح فيهم. ولكني وجدت في الرجل أشياء كثيرة طيبة. وبعد أن أصلح القفل وكان على وشك مغادرة البيت. وعدته بالزيارة في سجنه في الأحد التالي!!
عارض أبي في موضوع الزيارة. فقلت: ولكني وعدته يا أبي. لا يمكن أن أنكث بوعدي. وبعد مناقشة قبل أبي أن أقوم بالزيارة على أن يرافقني أحد الحراس. كان أبي كما قلت لك- على ما أظن- حاكما للمدينة فأمر أحد الحراس بمرافقتي. كانت هذه زيارتي الأولى للسجن وتبعتها زيارات أخرى إلا أنهم لم يجسروا أن يمنعوني... وانتهى الأمر إلى أن كنت أزور السجن يومياً!!
وقالت ماتلدة: أظنك الآن رأيت العامل الأول الحاسم في تكريس حياتي للخدمة. العامل الأول يا صديقي لكل خدمة مجيدة هو محبة الله... محبة الله التي بذلت! أما العامل الثاني فيمكنك أن تراه في الاختبار العجيب الذي جزته بعد ذلك:
حدث أن صديقاً أو صديقة لست أذكر بالضبط. طلب أو طلبت مني أن أحاول أن أقابل الواعظ الذي "تجددت" على يديه إذ كان سيمر بالمدينة في الصباح التالي في طريقه إلى بلدة أخرى. على أن ميعاد مروره كان يتفق مع ميعاد زيارة وعدت بها لأحد المسجونين. وارتبكت ماذا عسى أن أفعل. وذهبت إلى فراشي في المساء في شيء من الحيرة. وفي الليل رأيت. هل كانت رؤية حقيقية أو كان حلماً لست أعلم. رأيت مسجوناً يجر سلاسله وينظر إلىّ نظرة بائسة حزينة وقال: إن هناك ألوفاً مؤلفة من النفوس المقيدة بالأغلال تئن وتحترق شوقاً للحياة والسلام. كلميهم عن يسوع في الوقت المقبول!!
قلت لك أني لم أعلم هل هو حلم أو هل هو رؤيا. ولكنه ظهر لي شيئاً حقيقياً جداً. حتى أن وجه ذلك السجين ألهب ذاكرتي تاركاً طابعه بارزاً عليها. وقد ظللت لسنين كثيرة بعد ذلك أنتظر أن أراه في أحد السجون!!
ظللت مضجعة في فراشي أقول لنفسي: لا يمكن أن تكون هذه دعوة لخدمة المسجونين. أنا لا أزال صغيرة. أصغر من أن أقوم بهذا العمل العظيم خصوصاً وأني لم أكن متمكنة من اللغة الفنلندية. إذ كنت أتكلم اللغة السويدية!!
وفي اليوم التالي كنت أقرأ في الكتاب المقدس ووقعت عيني على كلمات إرميا: "آه يارب إني لاأقدر أن أتكلم لأني ولد". وقرأت بعد ذلك: "ولكن الله قال لي لا تقل إني ولد لأنك ستذهب إلى كل من سأرسلك إليهم وستتكلم بكل ماآمرك به"، وانحنيت للحظة أصلي ثم فتحت كتابي مرة أخرى، وفي هذه المرة قرأت كلمات حزقيال: "اذهب إلى الذين في السبي إلى أبناء شعبك وتكلم معهم وقل لهم". في ذلك الصباح انتهى الصراع.. انتهت المعركة قلت: يارب هأنذا أرسلني!"
قلت: وهكذا بدأت خدمتك الجليلة؟! فقالت: كلا. لقد ظهر كما لو أن الطريق مسدود فقد استقال أبي من وظيفة الحاكم وذهب مع العائلة إلى الضيعة التي تخصنا في رابليجون. ابتعدت عن منطقة السجون وهناك بدأت أعمل في مدارس الأحد. ولكن قلبي كان في السجون. ولم يحرمني الله من شوق قلبي، كما أني كنت واثقة من دعوتي. لقد كانت دعوة واضحة. ولئن وجدت بعض العقبات فليس معنى ذلك أن الله غير كلامه. ففي أحد الأيام أثناء زيارة لي في مدينة هلسنجتور أبصرت فرقة من المساجين يسيرون في طرقات المدينة وحولهم حرس مسلح. وقد ذاب قلبي وأنا أراهم. وأحسست بالعار والخجل من نفسي. إن كثيرين من أصدقائي المسجونين يعيشون بعيداً لا يزرون ولا يزارون. وفي تلك اللحظة قررت أن أعود إلى زيارتهم بانتظام. فذهب إلى المدير العام لإدارة السجون وطلبت منه التصريح لي بزيارة جميع سجون فنلندا لأعمل على خدمتهم من الناحية الروحية، وقامت صعوبات كبيرة في سبيل طلبي ولكني حصلت على التصريح أخيراً. كان عمري عشرين سنة عندما بدأت خدمة حياتي!!
قلت لها: أشكر الله أنك بدأت حياة الخدمة مبكرة. وأشكر الله أنه أمد في أيامك فكانت خدمتك طويلة عريضة عميقة. وأعتقد أن لي الحق أن أطلب أن تحدثيني عن بعض اختباراتك في هذه الخدمة الجليلة!!
وأجابت ماتلدة في كثير من التواضع: إني لم أقم بأشياء عظيمة المظهر. إن الخدمة المسيحية ليست بالضرورة الخدمة العظيمة في مظهرها بل في روحها. ويمكن أن أذكر لك بعض هذه الاختبارات المتواضعة فقد اكتشفت أن المساجين لم تكن حاجتهم الأولى إلى أناس يكلمونهم بل إلى أناس يتكلمون هم معهم. وكذلك يكون سرورهم أكثر إذا لم يكن أولئك الناس من موظفي السجن. إن قسيس السجن كان يؤدي رسالة طيبة ولكنهم كانوا ينظرون إليه كما لو كان سجاناً. كانوا يطلبون أشخاصاً من خارج السجن يستطيعون أن يبثوهم آلامهم ويشكون لهم متاعبهم بعيداً عن الرسميات!!
قلت: لقد قرأت ما كتبتيه لأحدهم عن ذلك. أنني أذكر بعض كلمات ذلك الكتاب الخالد. فقد قلت: إنه لا شيء يؤثر أعمق تأثير في نفس السجين نظير إظهار الثقة فيه والمحبة له. إن المحبة هي الإحساس بشعور الطرف الآخر. أن تضع نفسك في مكانه!!
وقالت ماتلدة: إنني لم أصل إلى هذه الحقيقة إلا بعد سنين من الاختبار وكثير من الفشل!!
قلت: نعم. نعم. ألم أسمع أنك كثيراً ما خلعت عنك ثيابك الثقيلة في زمهرير الشتاء. وجلست إلى جانب المساجين في ملابسهم الخفيفة في البرد حتى أزرق جلدك من شدة الزمهرير نظيرهم. لقد سلكت معهم فعلا بروح المسيح!!
وقالت ماتلدة: وهل ترى في هذا شيئاً كثيراً. أين هذا مما عمله السيد؟ الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب!!
لقد ربحت المحبة يا صديقي فيما فشلت فيه القسوة. لقد اختبرت هذا. أبصرت في أحد الأيام سجيناً وضعوا الأغلال حول عنقة. وقال لي قسيس السجن مشيراً إليه أنه مخلوق مصنوع من "الجلد" لا يمكن أن يؤثر فيه شيء ولكنني تقدمت بدون خوف. دخلت زنزانته وجلست وطلبت منه أن يجلس. وبعد معارضة منه جلس وأصغى إلى كل ما قلته له فلما انتهيت أشار إلى فجوة في الجدار وقال: هل تعرفين كيف حدثت هذه الفجوة في الجدار. فقلت: كلا. قال بعبوس: إنها حدثت من ضربة فأس. كنت أعمل في السجن نجاراً وقد قصدت أن أقتل السجان وأهرب. فلما دخل أشرعت فأسي أنوي أن أحز رأسه ولكن الفأس أفلتت وصدمت الجدار بدلا من رأسه. كان يمكن بالطبع أن تقضي عليه!
لاشك أنك لا تعرفين أني أشر إنسان في كل فنلندا. ألست خائفة مني؟ فأجبته بكل هدوء: كلا. أنا لست خائفة بالمرة بالرغم من أني أعرف كل شيء عنك. ولكني متأكدة أنك لا تنوي لي شراً. وفي نفس الوقت فإن الله معي وهو يسهر علىّ "الرب نوري وخلاصي ممن أخاف".
كان لهذه الكلمات من "فتاة بلا حراسة" ذات تأثير عميق على ذلك المذنب القاسي الذي قال لي قسيس السجن أن قلبه من جلد. إنهار الرجل وجعل يشهق والدموع تفيض من عينيه. وقال وهو يشهق: لقد ظننت أنه لا يوجد أحد في العالم يهتم بي. ولكني أراك أمامي. لقد أتيت إلىّ لتخبريني أن الله يحبني. أعتقد أنك مسيحية. حسناً إني أتمنى أن أكون أنا أيضاً مسيحياً إذا كان ذلك ممكناً. ونظر إلى سلاسله وقال: لئن كان الله يصفح فلماذا لا يصفح الناس أيضاً؟ إن هذه السلاسل تبعث فيّ كراهية للناس وكراهية للخير. طالما أنا فيها أظل أنحدر من رديء إلى أردأ إلى أن أصير إبليساً رجيماً!
لكنه بعد ذلك هدأ وتناول من يدي نسخة العهد الجديد التي قدمتها له وتركته وأنا أنتظر أن تعمل فيه محبة الله أكثر فأكثر!
وثمت أختبار آخر :
ركبت عربتي من المزرعة أقصد مكتب البريد لأرسل حوالة بريدية بمبلغ كبير جداً وكان سائق العربة سجيناً سابقاً. وفيما هو يسوق العربة في طريق "مقطوع" وسط الغابة التفت إلىّ وسأل: هل أنت ذاهبة حقاً إلى مكتب البريد لترسلي مبلغاً كبيراً من المال تحملينه معك. وهل تجسرين أن تجتازي هذه الغابات الموحشة وحدك معي في حين أنك تعرفين أني سبق أن سلبت كثيرين. ألست خائفة؟ وأجبت: كلا ليس عندي ذرة واحدة من الخوف لأني أعلم أن الرجل الذي كان يسلب الناس كان أنساناً بائساً تعساً. ولكنه الآن ليس كذلك وأنا أثق فيه!
كان صمت لعدة ثوان. لم يكن يسمع إلا صوت حوافر الحصان تدب على الأرض، وصوت هدير الشلال القريب من المكان وفجأة شق السكون صوت شهيق. لم يستطع السائق أن يضبط عواطفه أكثر فانفجر يبكي كطفل صغير وجعل يكلم نفسه: إنها تثق فيّ. سأكون بمعونة الله إنساناً أفضل!
شكرت ماتلدة وقلت: إن حديثك عجيب خصوصا وقد امتد لسنين كثيرة ولكني أرجو أن أعرف شيئاً عن أعمالك عندما امتدت بك الأيام؟
فقالت: إني لم أقصر عملي على زيارة السجون. ففي سنة 1912 أغلقت سجون فنلندا في وجهي فإن الحكومة الروسية التي حكمت فنلندا إذ ذاك قاومت خدمتي. وعندما قامت ثورة في روسيا أطلق سراح جميع المسجونين في فنلندا. ولكن قبل أن ينال المحكوم عليهم حريتهم ويتركوا سجن كاكولا أرسلوا يطلبون مني أن أزورهم. ذهبت فوجدت ثلاثمائة سجين واقفين في ثلاثة صفوف في ساحة السجن. وقد رحبوا بي بالترنيم وقدموا لي كأساً فضية جمعوا ثمنها من متحصلاتهم. كما قدموا إلى باقة من الورود الحمراء المزروعة في حديقة السجن!
وفي سنة 1918 قامت ثورة البيض وثورة الحمر وكنت صديقة الأثنين وكنت أدعو هذه الحرب الأهلية حرب الإخوة. وفي غرفة الجلوس كنت احتفظ بالزهور الحمراء والزهور البيضاء في "الوعاء" الواحد. كنت أقول إن كليهما يحتاج نفس الماء الواحد ونفس أشعة الشمس الواحدة. وقد يفاضل أحدهما بين لونه ولون الآخر ولكنهما كلاهما جميل في إنائي الواحد!
وفي خلال تلك الظروف الحزينة كنت أعمل للسلام بين الأطراف المتنازعة!
على أني أحسست بعد ذلك بمشقة العمل وزادت أثقاله على عاتقي فقررت أن أخفف من خدمتي وأن أعيش في شبه تقاعد. إن عمري الآن أزيد من سبعين سنة، والناس، وخصوصاً المسجونون السابقون يزوروني . وقد زارني بالأمس فقط رجل، وبعد أن سلم علىّ وسأل عن صحتي التفت إلى الموجودين حولي وقال: لقد رأيت ماتلدة فريد لأول مرة منذ خمس وثلاثين سنة، ولي الآن سبع وعشرون سنة لم أذق نقطة واحدة من الخمر. لقد عرفت الله على يدها- إنها تتجول بين المساجين والأحرار تحمل للجميع سلام الله!
قلت لها: لاشك أن الله قد باركك ولابد أن بركتك ستستمر استمرار المحبة الخالدة!
المصدر:
كتاب " أطول الناس عمراً وشخصيات أخرى" للدكتور القس/ لبيب مشرقي صـ319- 329